وهذه أقوال المذاهـب :
أما الحنفية :
مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه ، في ذلك ، هو من أشد المذاهب ، وقوله فيه من أغلظ الأقوال ، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف ، حتى الضرب بالقضيب ، وصرحوا بأنـّه معصية يوجب الفسق وترد بها الشهادة ، وبلغ ببعضهم شدة التحريم ، أن قالوا : أن السماع فسق ، والتلذذ به كفر ، هذا لفظهم ، قالوا : ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر بـه ، أو كان في جواره ، وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف ، والملاهي : ادخل عليهم بغير إذنهم لأنّ النهي عن المنكر فرض ، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض .إغاثة اللهفان 1/425 .
أما المالكية:
فقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن ضرب الطبل والمزمار ، ينالك سماعه ، وتجد له لذة في طريق أو مجلس ؟ قال : فليقم إذا التـذّ لذلك ، إلاّ أن يكون جلس لحاجة ، أو لا يقدر أن يقوم ، وأما الطريق فليرجع أو يتقدم ) الجامع للقيرواني 262 ،
وقال رحمه الله : إنما يفعله عندنا الفساق تفسير القرطبي 14/55
وروى الخلال بسند صحيح عن إسحاق بن عيسى قال سألت مالك عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء ؟ قال : إنما يفعله عندنا الفساق .
قال ابن عبد البر المالكي رحمه الله : من المكاسب المجمع على تحريمهاالربا ، ومهور البغايا ، والسحت ، والرشا ، وأخذا الأجرة على النياحة ، والغناء ، وعلى الكهانة ، وادعاء الغيب ، وأخبار السماء ، وعلى الزمر ، واللعب الباطل كله . الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لابن عبد البر.
أما مذهب الشافعية:
فقد : (صرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله ) إغاثة اللهفان 1/425،
وقد عـدّ صاحب كفاية الأخبار ، من الشافعية ،الملاهي من زمر وغيره منكرا ، ويجب على من حضر إنكاره ، وقال : ( ولا يسقط عنه الإنكار بحضور فقهاء السوء ، فإنهم مفسدون للشريعة ، ولا بفقراء الرجس - يقصدالصوفية لأنهم يسمون أنفسهم بالفقراء - فإنهم جهلة أتباع كل ناعق ، لا يهتدون بنورالعلم ويميلون مع كلّ ريح ) كفاية الأخيار 2/128
أما مذهب الحنابلة :
فقال عبد الله ابن الإمام احمد : سألت أبي عن الغناء فقال : الغناء ينبت النفاق بالقلب، ثم ذكر قول مالك : إنما يفعله عندنا الفساق) ،
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله : ( الملاهي ثلاثة أضرب ؛ محرم ، وهو ضرب الأوتار ، والنايات ، والمزامير كلها ، والعود ، والطنبور ، والمعزفة ، والرباب ، ونحوها ، فمن أدام استماعهـا رُدّت شهادتـه ) المغني 10/173
وقال " وإذا دعي إلى وليمة فيها منكر ، كالخمر ، والزمر، فأمكنه الإنكار ، حضر وأنكر، لأنه يجمع بين واجبين ، وإن لم يمكنه لم يحضر " الكافي 3/118
الرد على بعض الشبـه :
هذا ولا يصح استدلال بعض المعاصرين هداهم الله ، على إباحة المعازف ، بغناء الجاريتين في يوم العيد في بيت النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن القيم رحمه الله : ( وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب ، مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية ، بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة في يوم عيد وفرح ، بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة ، والحروب ، ومكارم الأخلاق ، والشيم ، فأين هذا من هذا ، والعجيب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم ، فإنّ الصديق الأكبر رضي الله عنه سمّى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان ، وأقـرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية ، ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ، ولا مفسدة في إنشادهما ، ولاستماعهما ، أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى ؟! فسبحان الله كيف ضلّت العقول والإفهام ) مدارج السالكين 1/493.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب - حديث الجاريتين - على إباحة الغناء ، وسماعه بآلة ، وبغير آلة ، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها " وليستا بمغنيتين " ، فنفت عنهما بطريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ .. فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتـا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل - أي الحديث - والله أعلم ) ( فتح الباري 2/442-443)
كما لا يصح استدلال بعض المعاصرين المبيحين للمعازف ، بما رواه نافع قال سمع ابن عمر مزمارا قال فوضع إصبعه في أذنيه ونأى عن الطريق ، وقال لي : يا نافع هل تسمع شيئا ؟ قال : فقلت لا ، قال فرفع إصبعيه من أذنيه ، وقال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا ) رواهأبو داود.
قال ابن قدامة رحمه الله : " وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار ، وقالوا لو كان حراما لمنع النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر من سماعه ، ومنع ابن عمر نافعا من استماعه ، ولأنكر على الزامر بها ، قلنا : أما الأول فلا يصح، لأنّ المحرم استماعها ، دون سماعها ، والاستماع غير السماع ، ولهذا فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع ، والمستمع ، ولم يوجبوا على من سمع شيئا محـرّما سدّ أذنيه ،وقال الله تعالى ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ) ولم يقل سـدّوا آذانهم ، والمستمع هو الذي يقصد السماع ، ولم يوجد هذا من ابن عمر رضي الله عنهما، وإنما وجد منه السماع ، ولأنّ بالنبيّ حاجة إلى معرفة انقطاع الصوت عنه لأنـّه عدل عن الطريق ، وسدّ أذنيه ، فلم يكن ليرجع إلى الطريق ، ولا يرفع إصبعيه عن أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه، فأبيح للحاجة " المغني 9/175
وقال شيخ الإسلام: " أما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع فلا يترتب عليه نهي ، ولا ذم باتفاق الأئمة ، ولهذا إنما يترتب الذم ، والمدح على الاستماع ، لا على السماع ، فالمستمع للقرآن يثاب عليه ، والسامع له من غيرقصد ، ولا إرادة لا يثاب على ذلك ، إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عنه من الملاهي ، لو سمعه السامع بدون قصده ، لم يضره ذلك " المجموع 10/78
ومن الغلط المشهور الذي يتكرر على ألسنة من يبيح المعازف بغير علم ، ولاهدى ، ولاكتاب منير ، نسبة إباحة المعازف عن بعض الصحابة ، فهو غلط عليهم ، فلم ينقل عن أحد منهم انه أباحه ، وقد طولب الذين نسبوا هذا القول إلى بعض الصحابة أن يثبتوا هذه النسبة بالإسناد الصحيح ، فعجزوا عن ذلك عجزا تاما ، وكذلك نسبته إلى علماء المدينة في العصور الأولى ، بل هو كذب عليهم , والصحيح مارواه الخلال عن الإمام مالك : أنه لما سئل عنه ، قال : إنما يفعله عندنا الفساق.
وأما زعم الزاعم أن المعازف إنما هي أصوات حسنة , والله تعالى لم يحرم على هذه الأمة الطيبات ، إنما حرم عليها الخبائث ، فالجواب أنّ الحكم الشرعي إنما يؤخذ من النصوص ، لا من استحسان النفوس ،
وبنصوص الوحي ، يُعرف أنَّ ما أباحه الله لنا هو من الطيبات ، وأما حرمه الله علينا فهو من الخبائث ،
وأيضا فقد بيّن العلماء من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن بعدهم من أئمة الدين ، أنَّ المعازف من الخبائث لانَّ لها تأثيرا سيئا على قلب المؤمن ، فهي تنبت فيه النفاق كما قال ابن مسعود رضي الله عنه.
وما مثل قول هذا الزاعم الذي يجعل ما تهواه نفسه ، دليلا يحرم ويحلل ويشرع في دين الله ، إلاّ كمثل قول بعض الصوفية : إنّ الله خلق الجمال وهو يحبه ، وجمال المرأة أمر حسن طيب ، فكيف يحرم الله تعالى علينا النظر إلى الطيبات ؟!
وزعموا أنَّ النظر إلى جمال المرأة ، أمر مباح مالـم يؤد إلى الوقوع في الفاحشة !!
وزعم بعضهم أن النظر إلى جمال النسوان والمردان ، من باب التفكر في جمال الخلق ، وإبداع الخالق فهو مستحب ، فجنَوْا على الشريعة بأهوائهم ، وأضلوا الخلق بآرائهم ، وصدق الله تعالى القائل ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) .
وبما تقدم يعلم أن المعازف محرمة ، ولادليل على استثناء موسيقى الجيش منها ، فتتناولها أدلة التحريم .
والعجب كيف زين الشيطان لجيوش بلادنا العربية ،وهي في أمس الحاجة إلى ذكر الله تعالى ، وتكبيره لما في ذلك تثبيت القلب واطمئنانه، زين لهم أن يستبدلوا هذا الذكر ، بمزامير الشيطان ، لتصحبهم الشياطين!!
وهي مع ذلك عادة غربية من عادات الكفار ، أما المسلمون فقد أمرهم الله تعالى في الجهاد بذكره قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) ،
وكانت عادة المسلمين في جهادهم التكبير ، والتهليل ، وبه كانت ترتعب قلوب الأعداء . كما أمرهم بطاعة الله ورسوله ،واجتناب المعاصي ، لأنها من أسباب حبسالنصر ، فكيف يعصون ربهم باستصحاب مزامير الشيطان.
،
والله أعلـم وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا